بسم الله الرحمن الرحيم
ساشارككم اليوم ذكرى من ذكريات شبابي..يوم عينت اول مرة بمدرسة في منطقة الريف ..وبالتحديد بمدينة الحسيمة الجميلة..
لم اعد اذكر بالتحديد اين نزلت بالمدينة..ولا اين قضيت الليلة الاولى بها..والمرجح انه كان باحد الفنادق الشعبية التي كانت محيطة او قريبة من محطة الحافلات وسط المدينة..
لا اذكر جيدا كيف قطعت المسافة بين القنيطرة والحسيمة وان كنت لا ازال اذكر انني قطعتها مع شابين عينا بنفس المدينة على متن سيارة لاحد المفتشين في التعليم يعمل بالناضور...كيف تعرفوا عليه او ما هي الاتفاقية التي ابرموها معه حتى يوصلنا الى مدينة الحسيمة ..لا اذكر الكثير عنه ولا عن المبلغ الذي دفعناه له مقابل ذلك.ولكني اذكر اننا توقفنا ليلا في مكان يدعى "باب برد"لتناول العشاء ربما..او ربما لان السيد المفتش تعود على التوقف هناك للاستراحة وشرب كاس من الشاي او القهوة يستعيد به بعض نشاطه بعد ان انهكته السياقة في هذه الطريق الصعبة الشديدة الالتواءات والمنعرجات.. اذكر انني في ذلك التاريخ لم اكن ادخن ولكني اشعلت في نهاية السنة الثانية للتكوين بمدرسة المعلمين بالقنيطرة ... اشعلت سيجارة تعبيرا عن فرحتي وسعادتي بنجاحي في امتحان التخرج...كان طيش شباب ساندم عليه طوال حياتي..
وفي هذه الليلة المظلمة ...وفي هذه المحطة المجهولة المعالم واللسان..اذ كان اصحابها يتكلمون الريفية واللتي لا افقه منها شيئا..في هذه الليلة وجدت نفسي وانا ابن العشرين ربيعا كما يقولون..وجدت نفسي على مقعد خشبي بارد وامام طاولة خشبية يتحلق حولها وبالقرب منها اناس لا يحفلون بالغريب الا ببعض النظرات المختلسة من خلف عملية اشعال السبسي وامن خلف دخان الكيف الذي ينفثونه بعد كل "نترة".(شهيق لادخال الدخان الى الصدر).
وجدت السيد المفتش هو المتحدث الوحيد بيننا مع هؤلاء الذين لا يظهر منهم الا الواجهة وما خلفهم ظلام في ظلام..كانت وسائل الانارة انذاك قناديل او مصابيح زيتية او شي من هذا القبيل...كنت ارى الوجوه ..كثيرا من الوجوه ..ولم اكن اهتم للاجساد او ما ظهر منها...كنت خائفا منهم..كانت والدتي رحمها الله توصيني بالحذر من "روافة"وتعني سكان الريف..كانت تؤكد انهم لا "كبدة" لهم..تعني لا رحمة عندهم ولا شفقة..يذبحون ويسلخون كما كانت تقول وتقيد القضية ضد مجهول.. هذه الاحاسيس وهذه الهواجس او المخاوف لم تبارح عقلي لمدة طويلة ..
ناولني احدهم "سبسي"فاشرت براسي اني لا ادخن ..لكنه ترك يده ممدودة كانه لا يهتم لرايي او رغبتي..
هل كان رفضي عرضه اهانة له...ام انه رجل لطيف ويريد ان يجود علي بهذا"العود" كرما منه.
ماذا لو غضب من حركتي تلك او احس بالاهانة...كان السيد المفتش ينظر الي مبتسما..ابتسامته تطمئنني بعض الشئ ولكنها لا تحل مشكلتي مع العود الممدود..ابتسمت انا ايضا في وجل ..والتفتت مرة اخرى جهة السيد المفتش وانا اتصنع الابتسامة..فنظر الي وهز راسه من فوق الى تحت ثم من تحت الى فوق.ولم يكررها.فرجعت بنظري الى العود لعل صاحبه سحبه من امامي..ولكنه كان لا يزال هنالك..مددت يدي كاني لست خائفا ..مددت يدي للعود..ماذا سيكون هذا العود..فكل رجل امامي ومن حولي له عود او عودين...والسيد المفتش كان يفعل ما يفعلون ولو انه كان يترك يده التي ياخذ بها العود .كان يتركها تحت الطاولة..وكنت اراه ينحني الى الجهة المظلمة من الطاولة و"ينتر ""النترة "تلو الاخرى..
اخدت العود من يده..ذلك الرجل اللطيف الذي اراد ان يجود علي "بنترة" او "نترتين "..كرما منه. وضعت فمي على العود وشهقت شهقة رمتني من على الكرسي الخشبي الذي كان باردا وقد اشتعل للتو..من هول ما اصابني..توقف الدخان في صدري ولم يبرح مكانه حتى جحضت عيناي وسال ماء انفي وفمي..وكنت ارى من خلال الدموع كثيرا من الوجوه الضاحكة المستبشرة ومن بينهم السيد المفتش..كنت اسعل بقوة واترنح تارة جالسا القرفساء وثارة على الكرسي..
حاولت تمالك نفسي واخفاء هلعي .دارت في ذهني افكار وافكار.شعرت بالخيانة من طرف السيد المفتش وشعرت ثارة بالاهانة.وثارة اخرى شعرت بالرعب من نهاية حزينة على هذه الارض النائية.ومن بين الافكار المرتبكة المرتبطة بالهلع برزت فكرة قبول الامر الواقع انه اريد بي ذلك..ليضحكوا من الصغار امثالي.. قبلت اللعبة بعد ان استرجعت انفاسي..ومسحت عيني من الدمع ..عدت الى مقعدي في مواجهتهم..وجلست انظر اليهم من غير خوف او وجل..وسالتهم ان كانوا قد استمتعوا بالمنظر..فضحكوا ثانية وضرب احدهم كفا على كف طالبا لي كاس شاي عربون مودة وصداقة...كانوا يتكلمون كثيرا وفي نفس الوقت تقريبا..في مزيج من الريفية والعربية ..بدوا من اسارير وجوههم كغير الذين رايت قبل تناولي "عود السبسي"بدوا الان اكثر انسانية ورجولة..والطف من ذي قبل..لعل خوفي قد زال ..ولعل صورة الريفي القتال كانت زائفة لدرجة انها زالت لمجرد انهم ضحكوا وطلبوا الشاي...لست ادري ولكني لن انسى تلك الليلة المظلمة الا من قبس من نور بعض الفوانيس..
لن انساها ما حييت...والان وبعد مرور اكثر من اربعين سنة عليها ..فانا اغفر لهم فعلتهم واغفر للسيد المفتش تواطؤه معهم..واسال الله ان يتجاوز عنا وعنهم..فلعل كثيرا منهم الان في الدار الاخرى..
هم السابقون ونحن اللاحقون