الواقع التاريخي للخلافة ونظام الغَلَبة
و أثرهما في نشأة المذاهب والفرق
توطئة :
هناك عوامل أساسية إليها يرجع تمزّق وحدة الاُمّة بعد الرسول الأكرم صلىاللهعليهوآله وانشعابها إلى فرق متعددة تميّزت كلّ واحدة منها بشيء من الاُصول وكثير من الفروع التي أصبح بعضها شعاراً للفرقة لا تفرّط فيه وإن لم يكن له أصل في الدين ، ولا يشاركها فيه غيرها وإن كان هو السنّة الخالصة !
وسوف يقتصر بحثنا هنا علي العوامل الأساسية في نشأة الفرق ، مع التعريف المركّز بالفِرق المندرجة تحت كلّ واحد من هذه العوامل ، غير ناظر إلى المذاهب الفقهية واُصولها ، فهذه الأخيرة رغم كونها وثيقة الصلة بما نحن فيه ـ كما سيظهر من بعض الأمثلة الآتية عرضاً ـ إلا أنّ لها ميدانها الآخر الفسيح الذي يخرجها عن تلك العوامل.
وأولها ، وهو ما سنتحدّث عنه في هذا الفصل ونرجىء الكلام في العوامل المتبقيّة إلى محلّها من هذا البحث ، وهو الواقع التاريخي للخلافة ، ونظام الغلبة ، والمشروع الثقافي الذي صحبهما.
قد يستقل عامل واحد في تكوين فرقة ، كما قد يشترك عاملان أو أكثر في تكوينها.
وقد وقفنا من خلال الفصل المتقدّم على نتائج جديدة كشفت أنّ المشهور والمتسالم الذي تتداوله الكتب ويردّده الناس غالباً ما يكون وجهة نظر منحازة توفّرت لأصحابها القدرة على بثّها وكأنّها الحقيقة الواحدة ، فكشفت بالتالي عن تصور مقلوب لحقائق التاريخ قد غزا أذهان الناس وصاغ بحسب اتّجاهه رؤية مقلوبة للعقيدة والتاريخ .. وسوف نقف على نتائج مماثلة في غير موضع من الفصول الآتية في الفرق الرئيسية ذات الأثر الهام في التاريخ الفكري والسياسي لهذه الاُمّة .. لا سيمّا في بيان أثر الواقع التاريخي للخلافة ونظام الغلبة في نشأة الفرق والمذاهب في الإسلام كما سيتّضح من هذا الفصل.
فكيف كان الواقع التاريخي للخلافة سبباً في نشأة المذاهب ، وكيف ترك أثره في تحديد معالمها ؟
لا ريب أنّ الواقع التاريخي هو الذي أفرز مبدأ « سنّة الشيخين » مرجعاً تشريعياً بعد الكتاب والسنّة ، ذلك المبدأ الذي وضِعَتْ بذرته الاُولى يوم أثبت الشيخان قدرتهما في السقيفة بعد نزاع ، وأفلحا في سَوق الناس إلى البيعة ، فتابع الواجمُ الذاهلُ ، وألقى المعارض بيديه ، عَقَبَ ذلك إدارةُ قويّة تميّزت بالحزم في اتخاذ القرار وفي إنفاذه ، مإليّاً كان أو اجتماعياّ أو عسكرياً أو دينيّاً ، ولا بدّ أن يصحب ذلك كلًه وجود صنف من الناس جُبِلوا على طاعة القويّ الحازم الذي يمتلك زمام المبادرة ، وربّما شدّتهم إليه مصلحة أو رأي ، ممّا يزيد الحاكم سؤدداً ، وقرارَه هيبةً ونفوذاً حتّي لا يحول دونه حائل ، فترى مبكّراً جدّاً رجالاً من ذلك الصنف يها جمون آل الرسول ونفراً من مقدّمي أصحابه أووا إليهم ، لا يوقفهم وازع ، وسائر الناس من ورائهم تلجمهم رهبة القرار الحازم والجرأة في التنفيذ .. وسارعت الألوف بعد ذلك في تلبية نداء الحرب مع إخوان لهم من المسلمين امتنعوا عن نقل الزكاة إلى الخليفة اعتراضاً على شخصه وطريقة انتخابه ولم يكفروا بحكم الزكاة ، فقاتلوهم استجابة للقرار الحازم الذي لا إذن للحوار فيه ولا رجعة عنه ، كما قاتلوا آخرين ارتدّوا عن الدين صراحةً ، سواء ، وعاملوهم بالاُسلوب ذاته حين ساوى قرار الخليفة الحازم بين حجز الزكاة عنه وبين الردّة
وهكذا كان ينفذ القرار الحازم بكلّ قوة ودون أن تكون هناك نافذة للردّ والحوار والمناقشة ، وإن حدث طرف من ذلك فالحسم دائماً لصالح قرار الخليفة نفسه ، وجرى ذلك في الاُمور الدينيه والتشريعية بالقوة نفسها ، فبدون أدنى ( مقاومة ) تذكر ينفذ قرار الخليفة في المنع من رواية أحاديث النبي صلىاللهعليهوآله والإفتاء بسنّته ، والمنع من تدوينها ، وفي تعطيلها أحياناً ، حتّى يصبح قرار التعطيل هو السنّة وتعود السنّة الاُولى بدعة !
ولقد تحقّق هذا في تفاصيل الصلاة ، وفي مناسك الحجّ ، وفي أحكام الأحوال الشخصية ، وفي الحقوق المإلية وغير ذلك (١) ، بل نجح قرار الخليفة حتّى في صناعة عبادة جديدة ، كما هو شأن صلاة التروايح ، بالرغم من أنّ صانعها نفسه يصفها بالبدعة ، إلا أنّها تصبح بعد قليل هي السنّة الثابتة ، ومن خالفها فقد أحدث في الدين
من كلّ ذلك وأمثاله برز مبدأ جديد لم تعرفه الاُمّة من قبل ، ولا دعا إليه كتاب ولا نبيّ ، فكان أساساً في ظهر فريق جدي يتمحور حوله ، ذلك هو مبدأ « سنّة الشيخين» !
[size=11.111111640930176][size=12.222222328186035]المذاهب والفرق في الإسلام[/size]
الدكتور صائب عبد الحميد[/size]